سجيـن الثلــوج .. (قصة من الادب الغربى)

أفضل ما قرأت ..
سجيـن الثلــوج ..
(قصة من الادب الغربى)

لقد أصابني الجنون حتما هذا هو التفسير الوحيد ها هو ذا جون يجلس أمامي، ويتطلع إلي بعينيه الباردتين كالثلج، الخاليتين من الحياة اللعنة على هذه العاصفة الثلجية .اللعنة على كل شيء .كيف بلغت الأمور هذا المبلغ؟.. هل من المعقول أن كل شيء كان على ما يرام، منذ اسبوع واحد فقط
*******
كنا أنا و جون هنا نعمل كعاملي إنقاذ فوق قمة هذا الجبل وكان من المفروض أن تنتهي نوبة عملنا منذ خمسة أيام لولا تلك العاصفة الثلجية التي

هبت فجأة دون سابق انذار فسدت الطريق.. وقطعت الدروب، وعزلتنا على الرغم منا
لم تكن أول مرة يحدث فيها هذا، لذا فقد كنا نحتاط لمثل هذه الظروف، وندخر المؤن اللازمة هنا ولقد استقبل جون الأمر في مرح كعادته، وبدأ وكأنما اسعده أن يحدث هذا
ثم وقعت الحادثة..
كان جون يثبت حاجزا إضافيا فوق سطح كوخ الإنقاذ، عندما انزلقت قدمه وسقط ..لم يمكنني إسعافه، فقد كنا ندخر الطعام ولكننا نفتقر إلى الدواء الكافي ...وراح جون يلفظ انفاسه أمام عيني في بطء ثم فوجئت به يتشبث بي فجأة ويهتف: لا تتركني هنا وسط الثلوج يا فيليب ارجوك لا تتركني هنا
ثم لفظ أنفاسه الاخيرة
*******
بكيتُ طويلاً لمصرع جون ثم حملته إلى خارج الكوخ ودفنته تحت الجليد المنهمر، ثم عدت إلى الكوخ وقضيت فترة أخرى ابكي حتى غلبني النوم فاستسلمت له ورحت في سبات عميق
وعندما استيقظت، كان الضوء يغمر الكوخ من النافذة المفتوحة بعد أن هدأت العاصفة فنهضت من فراشي ولم أكد اعتدل جالسا على اطرافه، حتى تجمدت أطرافي، واتسعت عيناي في رعب وذهول
لقد كان جون هناك..
كان يجلس على مقعده المعتاد أمام مائدة الطعام، ويتطلع إلى وجهي في هدوء شديد
وتسمرت في مكاني لدقائق طوال، دون أن انبس ببنت شفة، أو حتى اجرؤ على هذا، ثم استجمعت شجاعتي ودفعت قدميَّ دفعاً إلى حيث يجلس جون ورحت اتحسس وجهه البارد بأصابع مرتجفة
كان من الواضح أنه جثة هامدة، ولكن كيف عاد من قبره كيف أتى إلى ها
الموتى لا يعودون إلى الحياة ابدا .. ابدا
نهضت أتطلع من النافذة إلى الجليد الذي يكسو كل شيء وأدركت بخبرتي أن احداً لن ينجح في بلوغ موضعنا قبل اسبوع على الأقل، عندما تتم إزالة الجليد
وكان علي أن اقضي هذا الاسبوع هنا ..مع جثة جون
*******
مرة أخرى استجمعت شجاعتي، وحملت جثة جون إلى خارج الكوخ ودفنته للمرة الثانية، ثم عدت وجسدي كله ينتفض انفعالاً، وأخرجت زجاجة شراب، ورحت أعب منها عباً، حتى غلبني النوم، فألقيت رأسي على المائدة واستسلمت له تماماً
لم أدرك كم من الوقت ضللت نائما، ولكنني عندما استيقظت كانت الصدمة التي واجهتني قوية، حتى أنني تصورت أنها ستنتزع روحي من جسدي
لقد ارتطمت عيناي فور استيقاظي بعيني جون
نعم بعيني.. جون
لقد كان يجلس على مقعده، المواجه لي تماما ويتطلع إلي بنفس العينين الباردتين كالثلج
وسقطت من مقعدي رعباً
مالذي يحدث هنا ..
أي جنون هذا ..
هل لقيت أنا ايضاً مصرعي، وانتقلت إلى الجحيم، حيث ألقى عذابي
ولكن لا ...
لا يمكن أن يشبه الجحيم الواقع إلى هذا الحد
إنني داخل كوخ الإنقاذ.. إنني احفظ كل ركن فيه عن ظهر قلب
هذه هي المائدة ..
وهذه خزانة المؤن ..
وهذه الجثة ..
جثة جون ..
بقيت أرتجف على هذا الوضع لساعة كاملة، وأنا اعجز عن رفع بصري عن الجثة.. ثم نهضت وكأنما اصابتني كثرة الرعب بالتبلد.. واتجهت إلى حيث الجثة، وحملتها على كتفي ودفنتها وسط الجليد للمرة الثالثة
ومرة أخرى رحت أعب الشراب عباً، واستلقيت في فراشي ورحت في نوم عميق مليء بالكوابيس والأحلام المفزعة، واستيقظت منه لأجد نفس المشهد أمامي
جثة جون تتطلع إليّ بعيني باردتين خاليتين
*******
بتبلّد مشاعر تام نهضت من الفراش وحملت جثة جون ودفنتها للمرة الرابعة، وعدت إلى الكوخ
وفي هذه المرة كانت زجاجة الشراب فارغة فاكتفيت ببعض الطعام ..وجلست في مواجهة النافذة، اتطلع إلى الافق في شرود تام، والوقت يمضي في بطء شديد، حتى أتى الليل وساد الظلام، فاشعلت بعض النيران في المدفأة وجلست إلى جوارها أقاوم في اصرار
كنت اخشى النوم
أخشى ما يأتي بعده ..
ولكن هيهات أن يقاوم سجين ثلوج مثلي رغبته في النوم ،مع الدفء، والجوع، والحاجة إلى الشراب
وعلى الرغم مني سقطت في لجة النوم
وكالعادة.. استيقظت لاجده امامي
عاد جون مرة أخرى
عادت جثته تتطلع إلي بتلك النظرة الباردة المخيفة
وأنا لم اعد احتمل هذا
أعصابي تتحطم مثل كوب من الزجاج الهش
لقد قررت الانتحار
نعم ..سألحق بـ جون في الحياة الآخرة، لعل هذا يريحه ويمنعه من ملاحقتي على هذا النحو ...
إنني أنشد الارحة ..
الواداع ..
اغفروا لي ما فعلته ..
.......
-فيليب-
*******
انتهى رئيس فريق الإنقاذ من قراءة الرسالة، التي تركها فيليب ثم ألقى نظرة على جثة هذا الأخير، وقد اخترقت جمجته رصاصة من بندقيته وأمامها تجلس جثة جون على المقعد المقابل تتطلع إلى لا شيء بعينين باردتين كالثلج، وألتفت إلى الطبيب الشرعي يسأله: ما رأيك
أشعل الطبيب غليونه وهو يهز كتفيه، قائلاً: إنها حالة حادة من حالات تأنيب الضمير، وسيطرة العقل الباطن على العقل الواعي، فطبقاً لهذه الاوراق، ناشد جون رفيقه ألا يتركه وسط الثلوج ولكن بعد مصرعه لم يجد فيليب أمامه سوى أن يدفنه وسط هذه الثلوج، وهنا دار الصراع بين عقله الباطن وعقله الواعي
نفث دخان الغليون في عمق ثم تابع: لم يكن العقل الواعي لـ فيليب يشعر بشيء من تأنيب الضمير فلقد بدا له ما فعله منطقيا إذ مات رفيقه فقام بدفنه، ولكن ما أن يستسلم للنوم، حتى ينزاح عقله الواعي، ويفسح الطريق للعقل الباطن، الذي يشعر بتأنيب ضمير قوي لأنه ترك جون وسط الثلوج، على عكس رغبة هذا الأخير.. وهنا ينهض فيليب من نومه ويذهب إلى قبر جون فيخرج جثة هذا الاخير ويعود بها إلى الكوخ ثم يعاود نومه ويستيقظ في اليوم التالي وقد نسى ما دفعه عقله الباطن إلى فعله، ويذهله وجود الجثة داخل الكوخ، فيعود إلى دفنها، وهكذا
غمغم رئيس الفريق: ياللمسكين
أوما الطبيب برأسه موافقاً، وقال: مسكين بالفعل، فلم تحتمل اعصابه كل هذا الضغط، وانهارت في النهاية، مما دفعه إلى الانتحار
ران الصمت لحظات، بعد أن انتهى الطبيب من حديثه ثم هز رئيس فريق الإنقاذ رأسه، وقال: قصة عجيبة بالفعل ولكنها تحتاج إلى دليل قوي ياسيدي الطبيب
قاده الطبيب في رفق إلى النافذة وهو يقول: ها هو ذا
قالها وهو يشير إلى آثار اقدام عديدة تتجه من الكوخ إلى القبر المفتوح وتعود أكثر من مرة، وأضاف الطبيب: كلها آثار اقدام فيليب المسكين
والتفت يتطلع إلى جثة فيليب مستطردأ في شفقة: الذي قتله عقله الباطن، في سجن بارد
سجن من الثلوج..
المصدر:
كتاب زووم بقلم دكتور نبيل فاروق